كان بالمدينة امرأة متعبدة، ولها ولد يلهو، وهو مُلهي أهل المدينة. وكانت تعِظُه، وتقول: يا بني! اذكر مصارع الغافلين قبلك، وعواقب البطالين قبلك، اذكر نزول الموت.
فيقول إذا ألحت عليه:
كفي عن التعذال واللوم *** واستيقظي من سنة النوم
إني وإن تابعت في لذتي *** قلبي وعاصيتك في لومي
أرجو من إفضاله توبة *** تنقلني من قوم إلى قوم
فلم يزل كذلك حتى قدم أبو عامر البناني واعظ أهل الحجاز، ووافق قدومه رمضان، فسأله إخوانه أن يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابهم.
وجلس ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح، واجتمع الناس، وجاء الفتى فجلس مع القوم، فلم يزل أبو عامر يَعِظ وينذر ويبشر، إلى أن ماتت القلوب فرقا، واشتاقت النفوس إلى الجنة، فوقعت الموعظة في قلب الغلام فتغير لونه. ثم نهض إلى أمه، فبكى عندها طويلا، ثم قال:
زَمَمْتُ للتوبة أجمالي ورحت قد طاوعت عذالي
وأبت والتوبة قد فتحت *** من كل عضو لي أقفالي
لما حدا الحادي بقلبي إلى *** طاعة ربي فك أغلالي
أجبته لبيك من موقظ *** نبَّه بالتذكار إغفالي
يا أمَّ هل يقبلني سيِّدي *** على الذي قد كان من حالي؟
واسوأتا إن ردَّني خائبا *** ربي ولم يرض بإقبالي
ثم شمر في العبادة وجد، فقربت إليه أمه ليلة إفطاره، فامتنع وقال: أجد ألم الحمى، فأظن أن الأجل قد أزف. ثم فزع إلى محرابه، ولسانه لا يفتر من الذكر. فبقي أربعة أيام على تلك الحال. ثم استقبل القبلة يوما، وقال: إلهي عصيتك قويا، وأطعتك ضعيفا، وأسخطتك جلدا، وخدمتك نحيفا، فليت شعري هل قبلتني؟ ثم سقط مغشيا عليه، فانشج وجهه. فقامت إليه أمه، فقالت: يا ثمرة فؤادي، وقرة عيني، رد جوابي.
فأفاق فقال: يا أماه! هذا اليوم الذي كنب تحذريني، وهذا الوقت الذي كنت تخوفيني، فيا أسفي على الأيام الخوالي، يا أماه! إني - خائف على نفسي أن يطول في النار حبسي؛ بالله عليك يا أماه، قومي فضعي رجلك على خدّي، حتى أذوق طعم الذل لعله يرحمني، ففعلت، وهو يقول: هذا جزاء من أساء، ثم مات رحمه الله.
قالت أمه: فرأيته في المنام ليلة الجمعة، وكأنه القمر، فقلت: يا ولدي! ما فعل الله بك؟ فقال: خيرا، رفع درجتي.
قلت: فما كنت تقول قبل موتك؟ قال: هتف بي هاتف: أجب الرحمن! فأجبت.
قلت: فما فعل أبو عامر فقال: هيهات! أين نحن من أبي عامر؟
حَلّ أبو عامر في قبة *** وطدها ذو العرش للناس
بين جوار كالدمى خُرَّد *** يسقينه بالكأس والطاس
يقلن بالترخيم خذها فقد *** هنيتها يا واعظ الناس